هل يساعد العنف المفرط في تحسين الصحّة العامّة؟

إدارة "انعدام الأمن" في فلسطين

 

 

من الفدائي إلى "موظف الأمن"

لم ينشأ عن "اتفاقيات السلام" التي وقعتها منظمة التحرير و"إسرائيل" كيان فلسطيني مستقل ذو سيادة (دولة)، بل نشأ عنها منظومة أمنية-إدارية مهمتها إدارة الحياة اليومية "للسكان الفلسطينيين" في مراكز المدن، ومنع قيام عمليات عسكرية ضد "إسرائيل". مع اقتحام أرئيل شارون المسجد الأقصى، وفشل المفاوضات، اندلعت الانتفاضة الثانية، حيث أدّت فيها قوى الأمن الفلسطيني، بإمكانياتها المحدودة، دورًا مهمًّا في التصدي لقوات الاحتلال، ولمعت أسماء أبطال ممن أعاقوا تقدّم القوات "الإسرائيلية"، ومنهم  الشهيد "أبو جندل"-يوسف أحمد ريحان- وهو قائد ميداني في الأمن الوطني الفلسطيني، وممن أداروا عملية الدفاع عن مخيم جنين حتى الاستشهاد. كثيرون من منتسبي الأمن كانوا من عناصر حركة فتح، وبعضهم كان ناشطًا في ذراعها العسكريّة -كتائب شهداء الأقصى-، وهذا البُعد التنظيمي الوطني سمح لمقاتلي حركة فتح بالصمود وخوض حرب عصابات محدودة في قلب مركز المدن الفلسطينية، حتى الاستشهاد أو الاعتقال. في أجواء الاجتياح هذه، استمد الفلسطيني صموده من تلك النيران المتقطعة التي جابهت الكثافة النارية لدبابات الاحتلال. كانت تلك النيران نفسها التي شاركت في معركة الكرامة، دربت القوى الوطنية اللبنانية، وشاركت في معارك اجتياح لبنان

 بعد اغتيال الرئيس ياسر عرفات، و"إعادة هيكلة" قوى الأمن الفلسطيني، حاولت السلطة الفلسطينية وشبكة مانحيها الدوليين إعطاء الدور الوظيفي للسلطة صيغة "بناء الدولة". جاء ذلك متزامنًا مع الانقلاب الدموي في قطاع غزة وما تلاه من حروب على القطاع، ومع توغل استيطاني في الضفة الغربية. أمام هذه المعطيات، تبيّن مدى عبثية مشروع الدولة هذا، والذي أصبح متجسدًا على أرض الواقع كشريط أمني في قلب الضفة الغربية؛ شبكة اسمنتية من مقرات الأمن والسجون، تدير مصالح  قطاعات واسعة من الشعب عبر الريع السياسي (الراتب والقرض)، وتضعهم تحت رحمة سوق استهلاكي احتكاري (شركات اتصالات وموردي الأغذية). هذه البيئة، حوّلت الصراع من مسألة جغرافية سياسية تحررية –أرض وشعب- الى مسألة أمنية-استهلاكية، يديرها "موظفو أمن"، "إداريون"، و"القطاع الخاص"، وأصبحت قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني ترزح تحت رحمة هذه القوى. في هذه البيئة السياسية المتشابكة، يؤدّي "موظف الأمن"-والذي حلّ محلّ الفدائي- دور الحامي للوضع الراهن، ويُقتطع للأمن الفلسطيني ما يقارب ثلث الموازنة العامة، وبالتالي يبقى الأكثر قدرة على التوظيف وبناء شبكات ولاء

1_58812_1_6 (1).jpeg

 

تحويل أزمة صحيّة الى مسألة أمنية

 في الأيام الأولى من أزمة كورونا في فلسطين، شدّدت السلطة الفلسطينية على مركزية دور "المؤسسة الأمنية" وقيادتها في مكافحة فيروس كورونا، وعليه استطاعت السلطة تقديم "أزمة صحية" على أنها موضوع أمني، و برّرت تدخل "موظفي الأمن" في كلّ صغيرة وكبيرة، وعلى المستويات كافة-الدولية، المحلية، الصحة، الاقتصاد، وحتى على المستوى الشخصي للأفراد. وصل هذا الى حدّ خرق الدستور الفلسطيني، عبر طرح "قيادات الأجهزة الأمنية" ورئيس الوزراء مقترحًا مخالفًا للدستور يقضي بحسمِ يومَي عمل من الموظفين العموميين كتبرع إجباري. تلى ذلك مشروع قرار متعلق بإقرار زيادات لبعض كبار الموظفين وإعطاء "ديوان الرئاسة" صلاحيات إضافية، ومع ضغط شعبي على وسائل التواصل الاجتماعي، تمّ إلغاء زيادات كبار الموظفين وجعل الحسم اختياريًّا

 

 

تحت استعمار توسّعي متنصل من "اتفاقيات السلام" وفي ظل انقسام فلسطيني، ومع مجلس تشريعي معطل ونخبة سياسية مُسنّة، ومع تقييد الأمن للعمل السياسي -المجتمعي عبر التنسيق الأمني مع الاحتلال، يصبح "الموظف الأمني"، بسلاحه وزيه العسكري، المقرِّر الرئيسي في جميع شؤون الحياة. هذا يعني ببساطة، تحويل جميع مناحي حياة الفلسطيني، الفردي منها والمجتمعي، إلى مواضيع أمنية، تعطي "موظف الأمن" السلطة المعيارية في وضع قواعد "أمنية" ناظمة لحياة المجتمع وحركته. هذا التغوّل الأمني العبثي على حساب المجتمع، خلق منظومة أمن شمولية، وحوّل المجتمع إلى مادة بشرية قابلة للتعنيف والضبط. مع انعدام أيّ ضوابط سياسية أو مجتمعية، تُصبح القوة المجردة الوسيلة الوحيدة في إدارة شعب تحت الاحتلال

290437018.jpg

 

الحركات الاجتماعية والحراكات الأمنية المضادة: بناء مجتمع العبيد

في هذا السياق، يصبح من الطبيعي قراءة محاولات ضم "إسرائيل" للضفة الغربية كنتيجة حتمية لممارسات هذه المنظومة  الأمنية التي تختزل تعددية المجتمع الفلسطيني وديناميكيته في مسألة حفظ أمن إسرائيل. في الأيام الأخيرة الماضية، أقدمت "الأجهزة الأمنية" على اعتقال بعض موزعي الطرود الغذائية على العائلات المحتاجة، أطلقت النار على عامل من قرية بديا حاول العودة الى عمله في الأرض المحتلة عام 1948، اعتدت على صحافي أثناء الإيجاز الحكومي لأنه نقل معاناة أحد الحاضرين، وضربت مجموعة من الشباب في العيزرية، وأخيرًا توّجت ذلك بضرب أصحاب البسطات في مدينة الخليل. وفي هذا السياق، نتساءل، هل استخدام العنف المفرط من شأنه الحفاظ على الصحة العامة في هذا الوضع الاستثنائي؟ وكيف يُجيّر الأمن هذا الوضع "الاستثنائي" لخلق مساحات إضافية من العنف؟ هل من الضروري وطنيًّا، خلق مستوًى إضافيّ من العنف، يضاف إلى عربدة "الإسرائيلي"؟ بدلًا من أن تهدم السلطة الفلسطينية الناشئة سجون ومقرات الحكام العسكريين (المقاطعات) -الإنجليز منهم والصهاينة- تولّت توسيع هذه السجون والمقرات والإضافة إليها

في الختام، تنشر"الأجهزة الأمنية" إعلانات توظيف تنصّ على أنّ المتقدم للوظيفة العسكرية يجب ألّا يتعدى عمره الـ 18 سنة وألّا يحمل شهادة الثانوية العامة، فبدلًا من توجيه هذه الشريحة من الشباب إلى قطاعات إنتاجية، يتمّ استقطابهم "للأمن"، وبالتالي يُقتل الشباب كفئة اجتماعية ويتم تحويلهم إلى فئة عمرية مسلحة تحفظ أمن الوضع الراهن ومراكز القوى. إضافة إلى ذلك، لا بدّ من استذكار أن "أجهزة الأمن" هذه، وبالأخص في السنوات الأخيرة، استخدمت العنف المفرط في تفريق تظاهرات قطاعات اجتماعية-سياسية-مطلبية مختلفة، من الحراكات الشبابية، حراك المعلمين، والحراكات السياسية-بيمينها ويسارها، ولكنها  في المقابل سمحت -بل شارك عناصرها بزيّ مدني- في تظاهرات داعمة لمتنفذين في السلطة الفلسطينية. وعليه، فإن منظومة الأمن هذه تعمل على قتل أيّ حراك اجتماعي أو عمل حزبي سياسي، وتقدم عملًا مضادًّا، فتحتكر أذرعها الأمنية توزيع الطرود الغذائية وتسهّل لعناصرها الحركة من مكان الى آخر، ومن ثم تصوِّرهم على التلفاز لخلق رأي عام موازٍ. في هذا السياق، يصبح رجل الأمن المُنفِذ، المُشرع، والصحافي، وحتى الناشط المجتمعي، وبالتالي يوجّه "الأمن" الرأي العام وحركة المجتمع بالاتجاه الذي يريد

 

سعد عميرة: طالب دكتوراه ومحاضر في جامعة بازل في سويسرا، مهتمٌّ في التاريخ الشفويّ لفلسطين، الحركات الاجتماعية، والدراسات الأمنية النقدية